إهداء/إلى روح رجل الدولة وداعية الحرية والتسامح السياسي/جارالله محمد عمر..
الدولة بالمعنى الذي ينصرف اليه مفهوم الدولة المؤسسية هي وليدة التجربة السياسية الحديثة في المجتمع الاوروبي ، وهي بهذا المعنى تعبر عن تطور المجتمع الاوروبي ثقافيا في مسآرين متلآزمين يعدان في الواقع وبحق رافعات حقيقية للدولة في أي مجتمع ، وبدون ذلك يعدُ الحديث عن الدولة بالمفهوم المؤسسي او المدني مجرد فلسفة نظرية او يوتوبيا معلقة بالهواء تعكس الصورة المجردة للاحلام الوردية في أي مجتمع .
والتطور المقصود هنا ينصرف اولاً = إلى وعي المجتمع الاوروبي بمخاطر السلطة القائمة على الإمتياز الشخصي او النفوذ المهيمن للأفراد داخل جهاز السلطة ، بمعنى أخر ان المجتمع الاوروبي بوعيه الحداثي على المستوى السياسي اصبح غير قادر على تحمل مغامرات الافراد في قيادات السلطة الحاكمة للمجتمع ، وبهذا الوعي الحداثي تم إختراع مفهوم الدولة كفكرة ناظمة لحركة المجتمع بحيث اصبح الفرد هناك لا يخضع لسلطة الاشخاص بذواتهم بل يخضع لسلطة الفكرة العامة( الدولة) التي تجد سندها ومبرر وجودها في سلطة النظام والقانون وسلطة الدساتير التي صاغها هذا المواطن واصبحت تشكل عقد اجتماعي ناظم لسلطة الدولة التي تختفي فيها سلطة الأفراد كأشخاص متسلطين ونافذين في جهاز السلطة ،
وإذا كان هذا الوعي المجتمعي قد خلق هذا التطور الذي حول السلطة إلى دولة بالمفهوم الحديث وحول الاشخاص بنفوذهم السلطوي إلى موظفيين حكوميين داخل مؤسسات الدولة يمارسون سلطة النظام والقانون في خدمة المجتمع وليس في التسلط على رقاب المواطنيين ، فإن هذا الوعي بذاته قد تحول إلى سلطة اقوى من سلطة الحاكم ( رأي عام فاعل ومؤثر ) يقف بحزم في وجه أي محاولة هدفها العودة بالمجتمع إلى ظل الممارسات السلطوية للافراد .
كما أن هذا الوعي المجتمعي أنصرف ثانياً = إلى تأصيل قيم الحرية والتسامح وقبول الآخر المغاير ، وتجذير ذلك في قاع المجتمع ، بل وتحويل تلك القيم المدنية إلى ديناميكية فاعله على مستوى سلوك الافراد ، وكذلك الى نظام ثقافي ومعرفي يمثل العقل السائد او الفاعل في حياة المجتمع بشكل عام ، وهو ما فرض تطور آخر في مفهوم الدولة بالمعنى الذي ينصرف اليه مفهوم الدولة المدنية الحديثة ، أي ان الوعي المجتمعي ساهم للمرة الثانية في تطور هام في مفهوم الدولة ليس على مستوى ممارسة السلطة والقرار بالمفهوم المؤسسي السابق من الزاوية الوظيفية للدولة ، بل على مستوى مشروعية النظام والسلطة الحاكمة بشكل عام داخل فضاء الدولة ، وهو ما أدى إلى ظهور الدولة المدنية القائمة على مفهوم التعددية السياسية التي تعكس ثقافة المجتمع وتوجهاته المختلفة .
هذا يعني أن الوعي المجتمعي في اوروبا هو الذي حدد مفهوم الدولة في تطورها التاريخي، ففي المرحلة الاولى عالج مخاطر السلطة بعد أن اكتوى بنارها ، وبهذه المعالجة تحولت السلطة الى دولة ، وفي الحالة الثانية عالج مُشْكل الاحتقان في المجتمع بتجذير مفهوم الحرية والقيم المدنية ، وقد انعكس ذلك على مفهوم الدولة التي اصبحت بهذا التطور تعبر عن الواقع الثقافي الذي يعيشه المجتمع اكثر من كونها آلة صما تحكم المجتمع ، وفي الحالتين كانت النتيجة إختفاء مفهوم التسلط في ممارسة سلطة الدولة ، واختفاء ثقافة الاستبداد في سلوك المجتمع .
في اليمن نستطيع ان نستفيد اليوم من الوجبات الجاهزة التي تقدمها لنا التجربة التاريخية في اوروبا ، بمعنى آخر نستطيع ان نحرق المراحل التاريخية ونبدأ من أين انتهو الاوربيون ، ولكن النجاح سوف يكون مستحيل او حتى الحفاظ عليه مالم يكن هناك وعي مجتمعي قادرا على الحضور في معادلة الصراع بشكل فاعل ومؤثر وهو ليس مستحيلاً ، ولكن السؤال الجوهري من أين تبدأ الخطوة الاولى في تجذير هذا الوعي في أعماق المجتمع ومن هم المعنيين في ذلك ؟؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق