شهادة عن مقتل الرئيس إبراهيم الحمدي و أخيه عبدالله:
" ( اليوم الأول )
يوم مقتل الرئيس إبراهيم الحمدي و أخيه عبدالله , كنت في مقر عملي في قيادة الشرطة العسكرية ( و كانت في العرضي ) , وفي حوالي الساعة الثانية و النصف من بعد ظهر ذاك اليوم أمرني قايد الشرطة العسكرية محسن فلاح أنا و معي ضابط من الزملاء أن اصطحب سيارتين عسكريتين ( طقمين ) , و أن أتوجه إلى المستشفى العسكري ( كان يطلق عليه مستشفى الحوادث) , في الوقت نفسه وجه القايد فلاح طقمين آخرين إلى مستشفى الكويت .
سألت القايد عن التعليمات فأجابني بأنه سيوافينا بها عند وصولنا إلى المستشفى لأن الأمر كان في غاية السرية , و عند وصولي إلى المستشفى و جدت حراسة المستشفى و هم من زملائي في الشرطة, فاستعلمتهم عن الوضع فقالوا إنه كالمعتاد , ثم ناداني زميل لأجيب الهاتف , كان على الخط القايد الذي أمرني أن استلم الجثتين اللتين سيجلبهما المقدم محسن اليوسفي ( وكان وزيراً للداخلية في ذلك الوقت و لا يزال على قيد الحياة) , و حذرني أن يقترب من الجثتين أحد أو أن يراهما أو أن يصورهما .
بعد عشر دقايق تقريباً ( حوالي الثالثة و النصف عصراً ) , و صلت المستشفى سيارتان ,الأولى سيارة إسعاف روسية الصنع تحمل لوحة حكومية لكن لم يكن عليها كتابة تدل على المستشفى الذي تتبعه , و الثانية سيارة نوع حبة و ربع , في الأولى كان الوزير محسن اليوسفي و سايق الإسعاف و حدهما , و أما الثانية فقد كانت مكتظة بالجنود.
دعاني الوزير باسمي قائلاً : أأنت النقيب فلان ؟ قلت : نعم , فأمرني باستدعاء من يحمل الجثة من سيارة الاسعاف , فجاء صـِحـِيـَّان و معهما نقالة , فأخرجا جثةً ملفوفة في بطانية عسكرية مبتلة بالدّم , لم أتمكن من رؤية الجثة , و مشيت أنا والوزير معها و سألته أنضع الجثة في الثلاجة , فقال : لا , نشتي مكاناً آمناً , و حضر أحد الأطباء _ لا أذكر اسمه _ فوضعوا الجثة في غرفة العزْل عند بوابة المستشفى و طلب الوزير قفلاً فغلّق الباب وسلمني المفاتيح , ثم انتحى بي جانباً وقال:هذه جثة عبدالله الحمدي , و حذرني أن يراها أحد أو أن يصورها و إلا فسأتحمل المسئولية كاملة , عندئذ طلبت منه أن أرى الجثة , فدخلنا و كشف عنها , كان عبدالله الحمدي و عليه ملابس مدنية : قميص مموّه و سروال أسود , و فيه ثلاث أو أربع طلقات رصاص في جبهته و رأسه و أسفل عينه , و طلقتين في الصدر , ثم انصرف الوزير مع مرافقيه.
بعد نصف ساعة تقريباً , رجع الوزير مرة ثانية بالسيارتين و المرافقين أنفسهم , فأنزل الصِّحـِّيان جثةً أخرى مغطاة بخرقة سوداء و وضعاها على النقالة و مشينا بها و كان الدّم يقطر من النقالة على الأرض , أدخلنا الجثة في قسم الكلى بمعزل عن جثة عبدالله الحمدي , و قال لي الوزير : هذه الجثة لإبراهيم ( هكذا و لم يقل الرئيس ) .
طُرِحَت الجثة أرضاً على البلاط , ونزعت عنها تلك الخرقة السوداء , فرأيت الرئيس و عليه ثوب كحلي اللون ( أبو رقبة ) من تلك الثياب التي كانت تستورد من الصين و يلبسها عامة الناس , و رأيت في جسده طلقات عدة , فوق قلبه , و قبل أن يغادر الوزير اليوسفي توقف ليرى موضع الرصاص من صدر الحمدي و سألني : أهذا مدخل الطلقة ؟ فأجبت : لا أدري أهو مدخلها أم مخرجها ..ثم غادر .
في الساعة السادسة مساءً , جاء إلى المستشفى القايد محسن فلاح و مال بي جانباً و سألني : هل استلمت الجثث ؟ قلت : نعم , قال : جثث من ؟ قلت : جثة الرئيس إبراهيم الحمدي و جثة أخيه عبدالله , ثم دخلت أنا و هو _ وحدنا _ ليرى جثة إبراهيم , فقلبها ليرى عدد الطلقات و الباب مغلق ثم انتقلنا سريعا لأريه جثة عبدالله , كان فلاح في حالة من الذعر و حذرني من أن يشاهدهما أو يصورهما أحد و إلا فسأتحمل المسئولية و غادر فأمرت بتشديد الحراسة على الجثتين و على بوابات المستشفى .
و بعد انصراف فلاح بقليل جاءت سيار ( تاكسي ) فيها رجلان يسألان عن عدد الجثث , فأجاب الحراس بقولهم : لا ندري .
في الساعة العاشرة ليلا , جاءني مدير المستشفى ( أو قايد المستشفى كما كان يقال ) و أظنه المقدم حسين السكري , و كان على علم بصاحبي الجثتين و قد أراد أن يعدهما و يكفنهما ليضعهما في ثلاجة المستشفى عند البوابة , فرفضت لعدم و جود أوامر , لكن عند الحادية عشرة و النصف ليلاً هاتفني محسن فلاح يأمرني بالتعاون مع ( القايد ) السكري و بسرعة التكفين و وضع الجثتين في الثلاجة .
كان الذي تولى التكفين رجل عليه كوفية بيضاء و له لحية قد علاها الشيب ( ربما كان الموظف الموكل بالثلاجة ) , و قد كـُفـِّنتْ كل من الجثتين على حدة , كل في مكانها , و لم تغسلا , و قد تولى الموظف ذلك وحده غير أنه احتاج للعون في وضع الكفن فدخل أحد الزملاء ليعينه ( لا يزال الزميل حياً ) , و بعد الكفن نقلناهما معاً إلى الثلاجة بباب المستشفى .
كانت الحراسة مشددة و لم ننم حتى الصباح .
( اليوم الثاني)
في صباح اليوم الثاني كان الخبر قد انتشر بين الناس بمقتل الرئيس الحمدي , و عرفت ذلك من الناس الذين كانوا يأتون للسؤال عن الجثث لكن كان الحراس ينفون , و قد أبلغني الحراس أن أجنبيين ( غربيين ) كانا يستقلان سيارة ( هيئة سياسية ) حاولا التواصل معي بغرض تصوير الجثتين و لم يتمكنا من ذلك .
في الساعة التاسعة صباحا , جاءت سيارة فيها اثنان و كانت بأيديهما آلتا تصوير و قد زعما أنهما من التوجيه المعنوي للقوات المسلحة و كانا يريدان التقاط صور لجثتي الرئيس و أخيه فلم أسمح بذلك فحاولا إغرائي بالفلوس فرفضت ثم ذهبا .
ثم جاءني العقيد المرحوم صالح قوزع من حراسة أحمد الغشمي ( رئيس الأركان ) و كان معه طقم مسلح و سألني عن اسمي و كان على علم به ثم مضى يسألني عن الجثتين و إن كان قد رآهما أحد و عن التوجيهات بمنع الزيارة و .., فسألته عن اسمه فأخبرني فأخبرته أن لا وقت لدي للمناقشة مع أحد و إن كان يريد الحراسة فلينضم بعد إذن قايد الشرطة فمضى .
ما بين الساعة العاشرة و الساعة الحادية عشرة قبل الظهر , أتاني ثلاثة : رجل شايب و كان معه شابان , كانت أمارات الحزن الشديد بادية على و جوههم , عرفني الشايب بنفسه و أنه من آل الحمدي و طلب مني أن أريه جثتي إبراهيم و عبدالله فامتنعت , فألح علي و سألني بالله أن أمكنه من رؤيتهما فرفضت , كان بإحدى يديه كفن و بالأخرى كيس به توابع الكفن فلما يئس مني ناول أحد الصِّحـِّيين ما بيديه ليكفنهما و إن كانا قد كفنا فليهبهما لمن يستحق فأخذه الصحي و رجع الثلاثة . ( و قد حبس الصحي فيما بعد لذلك ) .
كان محسن فلاح يهاتفني كل ساعتين و ثلاث يستعلم عن الوضع عندي و ينبهني فكنت أخبره بمن جاء , و في حوالي الساعة الثانية عشرة ظهراً قبل الغداء جاء فلاح بنفسه فدخلنا ( هو و أنا ) إلى الثلاجة فشاهد الجثتين مكفنتين و أمرني بقبول الحراسة التي كانت قد جاءتني في حوالي التاسعة صباحاً من لدن رئيس الأركان بقيادة العقيد قوزع لتشاركنا الحراسة لكنه أمر بمراقبتهم و عدم السماح لهم أو لغيرهم بمشاهدة الجثتين ثم بعد هذا في الساعة الثانية بعد الظهر جاء قوزع و معه طقمان عسكريان ( حوالي ستة عشر فرداً ) , و قد بقيت قيادة الحراسة بيدي مع أن قوزع كان أعلى من رتبة , و قد تغدينا معاً و خزنا خارج المستشفى في الجهة الشرقية و قد أسندنا ظهورنا إلى سور المستشفى , خلال الخـِزَّان لم نقل كلمة عن الحادث أو الجثتين بل كان قوزع يلقي بعض الطُرَف و لم نسمح لأي مواطن بالاقتراب من المستشفى و كنا نردهم .
في حوالي الساعة السابعة مساء , و أنا داخل المستشفى أبلغني الجنود أن ناساً كثيرين على سياراتهم كانوا يسألون عن الرئيس الحمدى .
بقينا هذه الليلة أيضاً ساهرين إلى الصباح.
( اليوم الثالث)
في الساعة الثامنة صباحاً , جاءت سيارتان عليهما رجال يسألون إن كان بين الجثث جثة المقدم علي قناف زهرة ( قايد اللواء السابع مدرع و كان مقره يومئذ في النهدين ) و جثة عبدالله الشمسي مدير مكتب الرئيس إبراهيم فأجبتهم أنا شخصيا أن لا وجود لدينا لأية جثث.
في الساعة الثامنة و الربع صباحا و صلت المستشفى سيارات عدة عليها محسن فلاح و محسن اليوسفي و عبدالعزيز الغشمي ( و هذا الأخير هو أخو أحمد الغشمي و جهزوا سيارتي إسعاف من داخل المستشفى و أخرجت السيارتان إلى البوابة الجنوبية و في خلال ذلك و صلت سيارة عسكرية و عليها ذلك الرجل الشايب الذي كان قد قال لي إنه من آل الحمدي و سبق أن طلب مني رؤية الجثتين ( عرفت فيما بعد أنه أخوهما و اسمه محمد ) , أمسك محسن اليوسفي بيده و صعدا إحدى سيارتي الإسعاف و رأيته بعيني و هو يريه إحدى الجثتين ثم قاده إلى سيارة الإسعاف الأخرى و أراه الجثة الأخرى فرأيت الدموع تنزل من عيني الأشيب وهو يردد : حسبي الله و نعم الوكيل , إنا لله و إنا إليه راجعون , ثم تحرك الموكب رسميا و كان الناس قد تجمعوا حول المستشفى .
رجعت إلى مقر قيادة الشرطة لكن ما لبثت أن كلفني القايد فلاح بالتوجه رأساً إلى مقبرة الشهداء ( الكائنة بجوار جامع الشهداء ) لتولي الحراسة فانطلقت و حين و صلنا و جدنا قدامنا قوات المظلات منتشرة في المقبرة و معهم قذايف آر بي جي ( كانت المظلات بقيادة الرايد عبدالله عبدالعالم ) , و قد منعونا أول الأمر من دخول المقبرة ثم بعد كلامٍ أخبرناهم أننا زملاؤهم فسمحوا لنا بالدخول.
كانت جموع غفيرة من الناس حول المقبرة و بالأخص عند البوابة الشرقية ( تواجه الآن فرزة صنعاء – تعز ) , كانوا يصيحون : أين الحمدي يا غشمي من هو القاتل يا غشمي , ثم وصل موكب من السيارات تتوسطه سيارة نوعها صالون ذات لونين بني – أبيض , كان فيها أحمد الغشمي ( قايد الأركان ) و بجنبه سالم ربيع على ( رئيس جنوب اليمن ) ( و كان سايق الصالون يدعى فلان الجمل ) , و بعد الدفن خرج الموكب من البوابة الشرقية نفسها و ما إن خرجت الصالون حتى شاهدنا وابلاً من الأحذية تقذف على الصالون و فيها الغشمي و سالم ربيع حتى لقد غطت الأحذية مقدمة الصالون و وقعت علينا نحن أيضا و كنا نحاول فض الجموع عن السيارات .
رجعت إلى مقر الشرطة العسكرية و كتبت تقريراً خطياً بكل ما كان و سلمته للقايد الرايد محسن فلاح .
عدت إلى البيت منهوك القوى بدنياً و روحياً
و أسلمت نفسي لنوم ثقيل ..ثقيل ."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق