*على منهاج النُّبُوَّة 5*
*لم أستفِقْ إلا وأنا في قرن الثعالب*
ضاقتْ عليه مكة، أبو طالب الذي كان يحوطه ويرعاه قد مات، وخديجة جبهته الداخلية ومتراسه قد ماتتْ أيضاً، ولم يتغيَّر شيء في مكة، ما زالت غارقة في الضلال، تُكذِّبُ نبيَّها، وتسومُ أصحابه أصناف العذاب، فقرَّر المسير إلى الطائف، علَّه يجد فيها قلوباً أرحم من تلك القلوب القاسية في صدور سادة قريش، وفي الطائف عرضَ دعوته على سيدها ابن عبد ياليل، فوجده كأبي جهل غلظةً، وكأبي لهبٍ تكذيباً، وكأُمية بن خلف أذيةً، فأطلق خلفه سُفهاء الطائف وغلمانها يرشقونه بالحجارة حتى سالَ الدم من قدميه الشريفتين
بعد سنوات من هذه الحادثة، كانتْ جزيرة العرب تدين بالإسلام، فقد جاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجاً! وتسأله عائشة: هل أتى عليكَ يوم أشد من يوم أُحد؟
كانت تعرفُ كم كان موجعاً ذلك اليوم، فَقَدَ فيه عمه حمزة، المُقاتل الشرس، ورئيس هيئة أركانه! وفقد سبعين من خيرة أصحابه، وشُجَّ رأسه، وكُسرتْ مقدمة أسنانه
ولكنه حدثها عن يوم الطائف، لقد كان عليه أشد من يوم أُحُد، فبعد أن رجموه وأخرجوه، يقول لها: فانطلقتُ وأنا مهموم على وجهي، فلم أستَفِقْ إلا وأنا في قرن الثعالب فرفعتُ رأسي فإذا بسحابة فيها جبريل، فناداني، فقال: إنَّ الله تعالى قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعثَ إليكَ ملك الجبال لتأمره بما شئتَ فيهم! فناداني ملكُ الجبال، وقال: إن شئتَ أطبقتُ عليهم الأخشبين!
فقلتُ: بل أرجو أن يُخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يُشرك به شيئاً!
الشاهد في القصة:
فانطلقتُ وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفِقْ إلا وأنا في قرن الثعالب
هو يعلم أنه نبي، ويعلم أنَّ دينه سينتصر نهاية المطاف، ويعلم أن الله معه ولن يخذله، ولكنه إنسان يحزن، ويضيق صدره، ويُصيبه الهم، بل ويسير هائماً على وجهه لا يدري أين تاخذه قدماه بأبي هو وأمي، ثم ينتبه فإذا هو في قرن الثعالب قد مشى مسافةً بعيدة عن الطائف
فما بالك بنا نحن الذين لو جُمع إيماننا جميعاً في كفة وإيمانه هو في كفة لرجح إيمانه على إيماننا، ولفاقَ يقينه باللهَ يقيننا، ولغلبَ صبره صبرنا، أليس من حقنا نحن أيضاً أن ننكسر أحياناً، ونمشي لا ندري أين تأخذنا أقدامنا؟
فهل قدَّرنا هذا لبعضنا، وعرفنا أنه تمرُّ بالإنسان لحظات يخرجُ فيها عن طبعه الطيب، واتزانه الذي عرفناه به، وعقله الراجح الذي ألِفناه عليه؟
تمرُّ بالإنسان لحظات لا يُطيق فيها أن يقول كلمة، أو يسمع نصيحة، أو يُقابل إنساناً، فلماذا نعتبرُ الأمر شخصياً، ونزيد هموم بعضنا البعض بدل أن نُراعي أنَّ النفس في إقبال وإدبار، وأن الروح تمرضُ تماماً كما يمرضُ الجسم؟!
إذا رأيتَ صديقك ضَجِراً فلا تكن له هماً فوق همه، كُن له قرن الثعالب الذي يستفيقُ عنده
احترم حزنه، وحاجته في أن يبقى وحده، ثم حين يهدأ، اِربتْ على كتفه، وامسح على صدره، وواسِ قلبه، حدِّثه حديث القلب للقلب، والروح للروح، دعكَ من المنطق قليلاً، فالنفس لحظة انكسارها تحتاج احتواءً لا درساً، والروح لحظة تيهها تحتاج احتضاناً لا محاضرة
نحن نضعف لا من قلة الإيمان ولكن من قسوة الحياة، ما كان إيمان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم قليلاً يوم الطائف، ولكن الحياة كانت قاسية، ولقد علِم الله حجم وجعه وانكساره، فلم يُعاتبه لأنه هام على وجهه، ولم يقل له أين إيمانك بي، بل أرسلَ له ملائكةً، تحفه وتنصره، علم الله تعالى أن رسوله نهاية المطاف إنسان، وأن الناس تمر بهم لحظات ضعف تحتاج عندها قلباً حنوناً لا عقل فيلسوف أو لسان خطيب
*أدهم شرقاوي*
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق