لطالما كانت "إيران" معين علماء الإسلام على مدى قرون طويلة، هؤلاء العلماء الذين خرج منهم أئمة كبار من أهل السنة ما زالت لهم يد طولى إلى الآن على العلوم الإسلامية والفكر الإسلامي.
*ومع بداية القرن السادس عشر ظهرت "الدولة الصفوية" الشيعية على الأراضي الإيرانية والتي أثرت بظهورها تأثيرًا كبيرًا على النواحي السياسية والاجتماعية والدينية تجاوزت إيران وتعدتها إلى العراق وتركيا وأفغانستان وصولًا إلى الهند، وكانت سببًا في قطيعة بين إيران والعالم الإسلامي السني منذ ذلك الوقت حتى الآن.*
وتبدأ قصة ظهور الدولة الصفوية مع التصوف الذي انتشر على الأراضي الإيرانية بعد الغزو المغولي لها في القرن الثالث عشر الميلادي، *هذا التصوف الذي مزج بين التسنن الشافعي وحب آل بيت النبي الكريم وخاصة سيدنا "علي"، والذي سهّل التعامل بين المذاهب السنية والشيعية المختلفة،*
فالمتصوف يرى لقاء الله هو الهدف الأسمى وليس في اختلاف المذاهب والطرق أثرًا في هذا، ولكن رغم ذلك فغالبية تلك المناطق من أهل السنة الشافعية وكان المتشيعة قلة يتركزون في بعض المدن مثل "إقليم خراسان" و"قم"، و"قزوين"، و"هراة".
انتشرت الطرق الصوفية وكان من بينها الطريقة التي أسسها الشيخ "صفي الدين الإردبيلي" (1252-1334) التركماني السني الشافعي والتي عُرفت بالطريقة الصفوية نسبة إليه، *واستطاعت الطريقة خلافًا لغيرها من الطرق أن تتحول إلى حركة ثم إلى تأسيس دولة وسلالة حكم امتدت من عام 1501 حتى 1736، واستطاع أبناؤه وأحفاده من بعده تأسيس بنية هرمية للحركة وقفوا فيها على منصب شيخ الطريقة الأكبر.*
تطورت الطريقة الصفوية وجذبت أتباعا كُثر، حتى أضحت قوة سياسية نافذة في شمالي غرب إيران وشرقي الأناضول في القرن الخامس عشر، *خاصة مع تحول الطريقة من الوعظ إلى الجهاد والتشيع مع أحد أحفاد الشيخ صفي الدين وهو "الجنيد" (ت 1460) الذي مثّل نقلة في تاريخ الحركة؛*
أدت إلى إعلان حفيده إسماعيل الأول المعروف باسم "الشاه إسماعيل" (1487-1524) قيام الدولة الصفوية الشيعية وتعيين نفسه كأول ملك لها، والقيام بتجميع جنود الحركة الذين عرفوا بعد ذلك باسم "القزلباش" في جيش تحت قيادته، ولعل الدافع القوي الذي دفع إسماعيل لإعلان دولته على التشيع هو تمييزها عن الدول السنية المجاورة لها، وكان فرض التشيع بكل الوسائل المتاحة -كما سنرى- يهدف لإيجاد انسجام ديني ومذهبي داخل المجتمع الإيراني الذي تحكمه الدولة الجديدة.
*إعلان المذهب الشيعي وبداية المقاتل:*
تذكر المدونات الصفوية أن إسماعيل اجتمع ليلة الجمعة بأركان دولته، وبحث معهم إعلان الدولة الجديدة على المذهب الشيعي الإثنى عشري،
وقد أثار هذا تخوف كثير منهم، خاصة وأن عدد سكان مدينة "تبريز" والذي ينوي الإعلان من خلالها يزيد عن ثلاثمائة ألف شخص، ثلاثة أرباعهم من أهل السنة، وقد تحدث ردة فعل شعبية من الناس ترفض أن يحكمهم ملك شيعي، إلا أن جواب إسماعيل أكد على أنه لا يخشى إلا "الله" و"الأئمة الإثنى عشر" وأنه من يعترض منهم سيفصل السيف رأسه عن جسده.
وفي صباح الجمعة وبينما الناس يتوافدون على "المسجد الكبير" بالمدينة، فوجئ المصلون بانتشار "القزلباش" في الجامع وهم مدججون بالسلاح، وصعد الشاه على منبر المسجد الكبير وأعلن المذهب الشيعي الإثنى عشري مذهبًا رسيمًا للدولة الجديدة، وتذكر المصادر الصفوية أن الشيخ "أحمد الإردبيلي" قد قرأ الخطبة باسم الأئمة، فقوبل الأمر بالترحيب من نصف من كان في المسجد واعترض النصف الآخر على الأمر، وما كان من القزلباش إلا أن استلوا سيوفهم وأسكتوا كل من اعترض على هذا.
انطلق الشاه لاستئصال المخالفين لمذهبه عبر القتل والمطاردة،
وصدرت الأوامر بلعن الخلفاء الثلاث في الخطب والأماكن العامة، ومن يرفض من الناس اللعن فمصيره القتل،
ومن يُرى وهو يصلي صلاة أهل السنة ستقطع رأسه،
كما صدر قرار بحرق أهل السنة الذين اضطهدوا الشيعة قبل ظهور دولة الشاه،
وتم قتل كثير بهذا القرار في أذربيجان،
كما جرى هدم الجوامع السنية
ونسف المزارات الصوفية النقشبندية
وقُمع العديد من الطرق الصوفية الأخرى،
وقد امتدت يد المطاردة والقتل لأرباب التسنن والتصوف طوال القرنين السادس عشر والسابع عشر.
ظهرت حالة من الذعر بين سكان المدن الإيرانية والأذربيجانية عند وصول أخبار هذه المجازر إليهم، خاصة وأن الشاه كان يقوم بترهيب المناطق التي يقبل على فتحها قبل أن يدخلها، وينشر بداخلها أن من سيعترض عليه وعلى حكمه ومذهبه فمصيره القتل،
فالناس هنا بين خيارين إما إعلان تشيعهم أو استقبال السيف في صدورهم،
وقد قامت مذابح كبيرة ضد أهل السنة في كثير من المدن مثل مذبحة "تبريز" والتي يقال إن عدد ضحاياها تجاوز العشرين ألفا، ومدينة "يزد" التي لم يَقل فيها عدد القتلى عن سبعة آلاف قتيل، بالإضافة إلى "كازرون"، و"طبس"، و"مقاطعة خراسان"، *و"بغداد" التي دخلها الشاه في أكتوبر 1508 وفيها أمر بفتح قبر الإمام "أبو حنيفة" وإخراج عظامه وحرقها ثم نثر رمادها ثم هدم تربته وحرقها.*
*أقبل الأهالي في مختلف المدن على التشيع خوفًا من القتل، وكان يتم جلب الأهالي مجموعات مجموعات إلى ميدان كبير ويقوم أحد علماء الشيعة بشرح أسس المذهب ووعظ الناس وتحبيبهم في المذهب، ويقوم عالم آخر عند الانتهاء الأول من حديثه باستقبال الناس على دفعات ليعلنوا موالاتهم لآل البيت وللأئمة الإثنى عشرية وتشيعهم، و من يرفض فمصيره محتوم.*
*ترسيخ المؤسسات الشيعية في الدولة:*
لم يعتمد انتشار المذهب الإثنى عشري في إيران على السيف وقوة الدولة العسكرية فقط، بل أدرك الشاه منذ البداية؛ أن ترسيخ المذهب لا بد له أن يقوم على المؤسسات التعليمية الفقهية وتعظيم التشيع في قلوب الناس بشتى الطرق،
فقام أولًا باستقدام علماء الشيعة من "جبل عامل" بلبنان، كما استقدم أيضًا علماء البحرين وسورية والعراق وشمال شرق الجزيرة،
وقد قاموا بوضع الأساس الفكري للتشيع في إيران عبر وضع الكتب والمؤلفات،
وقد برز العالم الشيعي اللبناني "علي الكركي" (1465-1534 تقريبًا) كأول عالم أسس مدرسة شيعية في إيران، وهي المدرسة التي حولت التشيع الصوفي الذي يتلاءم مع مرحلة الطريقة إلى التشيع الفقهي المؤسسي المتوافق مع تحول الدعوة إلى دولة،
كما تم تأسيس مؤسسة دينة شيعية رسمية في الدولة يترأسها "شيخ الإسلام" ممثلًا لأعلى منصب ديني في الدولة.
أما على مستوى العمائر والمزارات الشيعية فقد تم إعادة بناء المزارات الموجودة وترميم ما هو قائم منها في مدينة "مشهد" و"قم" وذلك في عهد الشاه "عباس الأول" مع وقف ممتلكات واسعة عليها،
كما جرى إهمال الحج إلى "مكة" بزيارة كربلاء بالعراق، وجرى زيادة الزيارات الطقسية الاحتفالية لأضرحة الأئمة بدلًا من الزيارات التي كانت تتم لأضرحة الصوفية، وكل هذا كان بغية ربط الإيرانيين بالمؤسسة الدينية الشيعية الشعبية.
وهكذا انتقلت إيران السنية الشافعية إلى التشيع، والذي ما زال يلعب دورًا واضحًا الآن في حقبة من يمكن تسميتهم بالصفويين الجدد.
________________________________________________
المراجع:
1- السياسة والدين في مرحلة تأسيس الدولة الصفوية (1501-1576)، علي إبراهيم درويش، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، الدوحة، 2012.
2- Tufan Gündüz. "Son Kızılbaş: ŞAH İSMAİL". YEDITEPE. Istanbul. 2013.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق